فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {وبالوالدين إحسانا} [الإسراء: 23] هو الرابع، ثم ذكر في شرح ذلك الإحسان خمسة أخرى وهي: قوله: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة وَقُل رَّبّ ارحمهما} [الإسراء: 23، 24] فيكون المجموع تسعة، ثم قال: {وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل} وهو ثلاثة فيكون المجموع إثني عشر.
ثم قال: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] فيصير ثلاثة عشر.
ثم قال: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا} وهو الرابع عشر ثم قال: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} [الإسراء: 28، 29] إلى آخر الآية وهو الخامس عشر، ثم قال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ} [الإسراء: 31] وهو السادس عشر، ثم قال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} وهو السابع عشر ثم قال: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا} وهو الثامن عشر، ثم قال: {فَلاَ يُسْرِف في القتل} [الإسراء: 33] وهو التاسع عشر، ثم قال: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] وهو العشرون.
ثم قال: {وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ} وهو الحادي والعشرون، ثم قال: {وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم} [الإسراء: 35] وهو الثاني والعشرون، ثم قال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وهو الثالث والعشرون، ثم قال: {وَلاَ تَمْشِ في الأرض مَرَحًا} [الإسراء: 37] وهو الرابع والعشرون، ثم قال: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} وهو الخامس والعشرون، فهذه خمسة وعشرون نوعًا من التكاليف بعضها أوامر وبعضها نواه جمعها الله تعالى في هذه الآيات وجعل فاتحتها قوله: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا} [الإسراء: 22] وخاتمتها قوله: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} إذا عرفت هذا فنقول: ههنا فوائد:
الفائدة الأولى:
قوله: {ذلك} إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من التكاليف وسماها حكمة، وإنما سماها بهذا الاسم لوجوه: أحدها: أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والخيرات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، والعقول تدل على صحتها.
فالأتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعيًا إلى دين الشيطان بل الفطرة الأصلية تشهد بأنه يكون داعيًا إلى دين الرحمن، وتمام تقرير هذا ما نذكره في سورة الشعراء في قوله: {هَلْ أُنَبّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين * تَنَزَّلُ على كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221، 222].
وثانيها: أن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ولا تقبل النسخ والإبطال، فكانت محكمة وحمكة من هذا الاعتبار.
وثالثها: أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به، فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأول وسائر التكاليف عبارة عن تعليم الخيرات حتى يواظب الإنسان عليها ولا ينحرف عنها، فثبت أن هذه الأشياء المذكورة في هذه الآيات عين الحكمة، وعن ابن عباس: أن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه الصلاة والسلام: أولها: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} [الإسراء: 22] قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ في الألواح مِن كُلّ شَيْء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لّكُلّ شَيْء} [الأعراف: 145].
والفائدة الثانية:
من فوائد هذه الآية أنه تعالى بدأ في هذه التكاليف بالأمر بالتوحيد، والنهي عن الشرك وختمها بعين هذا المعنى، والمقصود منه التنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر يجب أن يكون ذكر التوحيد، وآخره يجب أن يكون ذكر التوحيد، تنبيهًا على أن المقصود من جميع التكاليف هو معرفة التوحيد والاستغراق فيه، فهذا التكرير حسن موقعه لهذه الفائدة العظيمة ثم إنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يوجب أن يكون صاحبه مذمومًا مخذولًا، وذكر في الآية الأخيرة أن الشرك يوجب أن يلقي صاحبه في جهنم ملومًا مدحورًا، فاللوم والخذلان يحصل في الدنيا، وإلقاؤه في جهنم يحصل يوم القيامة ويجب علينا أن نذكر الفرق بين المذموم المخذول، وبين الملوم المدحور.
فنقول: أما الفرق بين المذموم وبين الملوم، فهو أن كونه مذمومًا معناه: أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر، فهذا معنى كونه مذمومًا، وإذا ذكر له ذلك فبعد ذلك يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل، وما الذي حملك عليه، وما استفدت من هذا العمل إلا إلحاق الضرر بنفسك، وهذا هو اللوم.
فثبت أن أول الأمر هو أن يصير مذمومًا، وآخره أن يصير ملومًا، وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور فهو أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال: تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت، وأما المدحور فهو المطرود.
والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة قال تعالى: {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 69] فكونه مخذولًا عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه، وكونه مدحورًا عبارة عن إهانته والاستخفاف به، فثبت أن أول الأمر أن يصير مخذولًا، وآخره أن يصير مدحورًا، والله أعلم بمراده. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {ولا تمش في الأرض مَرَحًا} فيه خمسة أوجه:
أحدها: أن المرح شدة الفرح بالباطل.
الثاني: أنه الخيلاء في المشي، قاله قتادة.
الثالث: أنه البطر والأشر.
الرابع: أنه تجاوز الإنسان قدره.
الخامس: التكبر في المشي.
{إنّك لن تخرِقَ الأرض ولن تبلغ الجبال طولًا} فيه وجهان:
أحدهما: إنك لن تخرق الأرض من تحت قدمك ولن تبلغ الجبال طولًا بتطاولك زجرًا له عن تجاوزه الذي لا يدرك به غرضًا.
الثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى له، ومعناه كما أنك لن تخرق الأرض في مشيك، ولن تبلغ الجبال طولًا فإنك لا تبلغ ما أردت بكبرك وعجبك، إياسًا له من بلوغ إرادته. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} قرأ الجمهور: {مرَحًا} بفتح الراء مصدر من مرَح يمرَح إذا تسبب مسرورًا بدنياه مقبلًا على راحته، فهذا هو المرح، فنهي الإنسان في هذه الآية أن يكون مشيه في الأرض على هذا الوجه، ثم قيل له إنك لن تقطع الأرض وتمسحها بمشيك، ولن تبلغ أطوال الجبال فتنالها طولًا، فإذا كنت لا تستوي في الأرض بمشيك فَقَصْرُكَ نفسك على ما يوجبه الحق من المشي والتصرف أولى وأحق، وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية والمراد الناس كلهم.
قال القاضي أبو محمد: وإقبال الناس على الصيد ونحوه تنزهًا دون حاجة إلى ذلك داخل في هذه الآية، وأما الرجل يستريح في اليوم النادر أو الساعة من يومه يجم بها نفسه في التفرج والراحة ليستعين بذلك على شغل من البر كقراءة علم أو صلاة، فليس ذلك بداخل في هذه الآية، وقرأت فرقة فيما حكى يعقوب {مرِحًا} بكسر الراء على بناء اسم الفاعل، وهذا المعنى يترتب على هذه القراءة، ولكن يحسن معها معنى آخر ذكره الطبري مع القراءة الأولى وهو بهذه القراءة أليق، وهو أن قوله: {لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولًا} أراد به أنك أيها المرح المختال الفخور لا تخرق الأرض ولا تطاول الجبال بفخرك وكبرك، وذهب بالألفاظ إلى هذا المعنى، ويحسن ذلك مع القراءة بكسر الراء من المرح، لأن الإنسان نهي حينئذ عن التخلق بالمرح في كل أوقاته، إذ المشي في الأرض لا يفارقه، فلم ينه إلا عن يكون مرحًا، وعلى القراءة الأخرى إنما نهي من ليس بمرح عن أن يمشي في بعض أوقاته مرحًا فيترتب في المرِح بكسر الراء أن يؤخذ بمعنى المتكبر المختال، وخرق الأرض قطعها، والخرق الواسع من الأرض ومنه قول الشاعر: المتقارب:
وخرق تجاوزت مجهوله ** بوجناء خرق تشكى الكلالا

ويقال لثقب الأرض، وليس هذا المعنى في الآية، ومنه قول رؤبة بن العجاج:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق

وقرأ الجراح الأعرأبي: {تخرُق} بضم الراء، وقال أبو حاتم: لا تعرف هذه اللغة، وقوله تعالى: {كل ذلك كان سيئة} الآية، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو، وأبو جعفر والأعرج {سيئة}، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والحسن ومسروق {سيئه} على إضافة سيىء إلى الضمير، والإشارة على القراءة الأولى إلى ما تقدم ذكره مما نهي عنه كقول أف وقذف الناس والمرح وغير ذلك، والإشارة على القراءة الثانية إلى جميع ما ذكر في هذه الآيات من بر ومعصية، ثم اختص ذكر السيىء منه بأنه مكروه عند الله تعالى، فأما من قرأ {سيئه} بالإضافة إلى الضمير فإعراب قراءته بين: وسيىء اسم {كان} و{مكروهًا} خبرها، وأما من قرأ {سيئة} فهي الخبر ل {كان}، واختلف الناس في إعراب قوله: {مكروهًا}، فقالت فرقة هو خبر ثان ل {كان} حمله على لفظ كل، و{سيئة} محمول على المعنى في جميع هذه الأشياء المذكورة قبل، وقال بعضهم هو نعت ل {سيئة} لأنه لما كان تأنيثها غير حقيقي جاز أن توصف بمذكر.
قال القاضي أبو محمد: وضعف أبو علي الفارسي هذا، وقال إن المؤنث إذا ذكر فإنما ينبغي أن يكون ما بعده وفقه، وإنما التساهل أن يتقدم الفعل المسند إلى المؤنث وهو في صيغة ما يسند إلى المذكر ألا ترى أن قول الشاعر: المتقارب:
فلا مزنة ودقت ودقها ** ولا أرض أبقل إبقالها

مستقبح عندهم، ولو قال قائل، أبقل أرض لم يكن قبيحًا، قال أبو علي ولكن يجوز في قوله: {مكروهًا} أن يكون بدلًا من {سيئة}، قال ويجوز أن يكون حالًا من الذكر الذي في قوله: {عند ربك} ويكون قوله: {عند ربك} في موضع الصفة ل {سيئة}، وقرا عبد الله بن مسعود {كان سيئاته}، وروي عنه {كان سيئات} بغير هاء، وروي عنه {كان خبيثة}، وذهب الطبري إلى أن هذه النواهي كلها معطوفة على قوله أولًا: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23] وليس ذلك بالبين، قوله: {ذلك مما أوحى إليك ربك} الآية. الإشارة بـ {ذلك} إلى هذه الآداب التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة أي هذه من الأفعال المحكمة التي تقتضيها حكمة الله في عباده وخلقه لهم محاسن الأخلاق، و{الحكمة} قوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة، ثم عطف قوله: {ولا تجعل} على ما تقدم من النواهي، والخطاب للنبي عليه السلام، والمراد كل من سمع الآية من البشر، والمدحور، المهان المبعد. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ولا تمش في الأرض مرَحًا} وقرأ الضحاك، وابن يعمر: {مَرِحًا} بكسر الراء، قال الأخفش: والكسر أجود، لأن {مَرِحًا} اسم الفاعل؛ قال الزجاج: وكلاهما في الجودة سواء، غير أن المصدر أوكد في الاستعمال، تقول: جاء زيد رَكْضًا، وجاء زيد راكِضًا، فركضًا أوكد في الاستعمال، لأنه يدل على توكيد الفعل، وتأويل الآية: لا تمش في الأرض مختالًا فخورًا، والمرح: الأشر والبطر.
وقال ابن فارس: المرح: شدة الفرح.
قوله تعالى: {إِنَّك لن تَخْرِقَ الأرض} فيه قولان.
أحدهما: لن تقطعها إِلى آخرها.
والثاني: لن تنفذها وتنقُبها.
قال ابن عباس: لن تَخرق الأرضَ بِكِبْرِك، ولن تبلغ الجبال طولًا بعظَمتك.
قال ابن قتيبة: والمعنى: لا ينبغي للعاجز أن يَبْذَخَ ويستكبر.
قوله تعالى: {كل ذلك كان سَيِّئه} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: {سَيِّئَةً} منونًا غير مضاف، على معنى: كان خطيئةً، فعلى هذا يكون قوله: {كلُّ ذلك} إِشارة إِلى المنهيّ عنه من المذكور فقط.
وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {سَيِّئُهُ} مضافًا مذكَّرًا، فتكون لفظة {كلّ} يُشار بها إِلى سائر ما تقدم ذِكْره.
وكان أبو عمرو لا يرى هذه القراءة.
قال الزجاج: وهذا غلط من أبي عمرو، لأن في هذه الأقاصيص سَيِّئًا وحَسَنًا، وذلك أن فيها الأمر بِبِرِّ الوالدين، وإِيتاء ذي القربى، والوفاء بالعهد، ونحو ذلك، فهذه القراءة أحسن من قراءة مَنْ نصب السَّيِئة، وكذلك قال أبو عبيدة: تدبرت الآيات من قوله تعالى: {وقضى ربك} فوجدت فيها أمورًا حسنة.
وقال أبو علي: من قرأ {سَيِّئَةً} رأى أن الكلام انقطع عند قوله: {وأحسن تأويلًا}، وأن قوله: {ولا تقف} لا حُسْنَ فيه.
قوله تعالى: {ذلك مما أوحى إِليك ربك} يشير إلى ما تقدم من الفرائض والسنن، {من الحكمة}، أي: من الأمور المُحْكَمة والأدب الجامع لِكُل خير.
وقد سبق معنى المدحور [الأعراف: 18]. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحًا} هذا نَهْيٌ عن الخُيَلاء وأمرٌ بالتواضع.
والمَرَح: شدّة الفرح.
وقيل: التكبر في المشي.
وقيل: تجاوز الإنسان قدره.